فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان إيجاد النهار بعد إعدامه، وتبيين الظل به غبّ إبهامه، أمرًا عظيمًا، وإن كان قد هان بكثرة الإلف، أشار بأداة التراخي ومقام العظمة فقال: {ثم جعلنا} أي بعظمتنا {الشمس عليه دليلًا} أي يدور معها حيثما دارت، فلولا هي ما ظهر أن لشيء ظلًا، ولولا النور ما عرف الظلام، والأشياء تعرف بأضدادها.
ولما كانت إزالته شيئًا فشيئًا بعد مدة كذلك من العظمة بمكان.
قال منبهًا على فضل مدخول {ثم} وترتبه متصاعدًا في درج الفضل، فما هنا أفضل مما قبله، وما قبله أجلّ مما تقدمه، تشبيهًا لتباعد ما بين المراتب الثلاث في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت: {ثم قبضناه} أي الظل، والقبض: جمع المنبسط {إلينا} أي إلى الجهة التي نريدها، لا يقدر أحد غيرنا أن يحوله إلى جهة غيرها؛ قال الرازي رحمه الله في اللوامع: وهذه الإضافة لأن غاية قصر الظل عند غاية تعالي الشمس، والعلو موضع الملائكة وجهة السماء التي فيها أرزاق العباد، ومنها نزول الغيث والغياث، وإليها ترتفع أيدي الراغبين، وتشخص أبصار الخائفين- انتهى.
{قبضًا يسيرًا} أي هو- مع كونه في القلة بحيث يعسر إدراكه حق الإدراك- سهل علينا، ولم نزل ننقصه شيئًا فشيئًا حتى اضمحل كله، أو إلا يسيرًا، ثم مددناه أيضًا بسير الشمس وحجبها ببساط الأرض قليلًا قليلًا، أولًا فأولًا بالجبال والأبنية والأشجار، ثم بالروابي والآكام والظراب وما دون ذلك، حتى تكامل كما كان، وفي تقديره هكذا من المنافع ما لا يحصى، ولو قبض لتعطلت أكثر منافع الناس بالظل والشمس جميعًا، فالحاصل أنه يجعل بواطنهم مظلمة بحجبها عن أنوار المعارف فيصيرون كالماشي في الظلام، ويكون نفوذهم في الأمور الدنيوية كالماشي بالليل في طرق قد عرفها ودربها بالتكرار، وحديث علي رضى الله عنه في الروح الذي مضى عند {والطبيات للطيبين} في النور شاهد حسي لهذا المر المعنوي- والله الموفق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}.
اعلم أنه تعالى لما بين جهل المعرضين عن دلائل الله تعالى وفساد طريقهم في ذلك ذكر بعده أنواعًا من الدلائل الدالة على وجود الصانع.
النوع الأول: الاستدلال بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: {أَلَمْ تَرَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه من رؤية العين والثاني: أنه من رؤية القلب يعني العلم، فإن حملناه على رؤية العين فالمعنى أم تر إلى الظل كيف مده ربك وإن كان تخريج لفظه على عادة العرب أفصح وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج، فالمعنى ألم تعلم وهذا أولى وذلك أن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله تعالى في تمديده غير مرئي بالاتفاق، ولكنه معلوم من حيث إن كل متغير جائز فله مؤثر فحمل هذا اللفظ على رؤية القلب أولى من هذا الوجه.
المسألة الثانية:
المخاطب بهذا الخطاب وإن كان هو الرسول عليه السلام بحسب ظاهر اللفظ ولكن الخطاب عام في المعنى، لأن المقصود من الآية بيان نعم الله تعالى بالظل، وجميع المكلفين مشتركون في أنه يجب تنبههم لهذه النعمة وتمكنهم من الاستدلال بها على وجود الصانع.
المسألة الثالثة:
الناس أكثروا في تأويل هذه الآية والكلام الملخص يرجع إلى وجهين:
الأول: أن الظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص وبين الظلمة الخالصة وهو ما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس، وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران وهذه الحالة أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس، وأما الضوء الخالص وهو الكيفية الفائضة من الشمس فهي لقوتها تبهر الحس البصري وتفيد السخونة القوية وهي مؤذية، فإذن أطيب الأحوال هو الظل ولذلك وصف الجنة به فقال: {وَظِلّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30] وإذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه بين أنه من النعم العظيمة والمنافع الجليلة، ثم إن الناظر إلى الجسم الملون وقت الظل كأنه لا يشاهد شيئًا سوى الجسم وسوى اللون، ونقول الظل ليس أمرًا ثالثًا، ولا يعرف به إلا إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم زال ذلك الظل فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجودًا وماهية لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها، فلولا الشمس لما عرف الظل، ولولا الظلمة لما عرف النور، فكأنه سبحانه وتعالى لما طلع الشمس على الأرض وزال الظل، فحينئذ ظهر للعقول أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون، فلهذا قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلًا} أي خلقنا الظل أولًا بما فيه من المنافع واللذات ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت الشمس دليلًا على وجود هذه النعمة، ثم قبضناه أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيرًا يسيرًا فإن كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل في جانب المغرب، ولما كان الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيرًا يسيرًا فكذا زوال الإظلال لا يكون دفعة بل يسيرًا يسيرًا، ولأن قبض الظل لو حصل دفعة لاختلت المصالح، ولكن قبضها يسيرًا يسيرًا يفيد معه أنواع مصالح العالم، والمراد بالقبض الإزالة والإعدام هذا أحد التأويلين.
التأويل الثاني: وهو أنه سبحانه وتعالى لما خلق الأرض والسماء وخلق الكواكب والشمس والقمر وقع الظل على الأرض، ثم إنه سبحانه خلق الشمس دليلًا عليه وذلك لأن بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فإنهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر، وكما أن المهتدي يهتدي بالهادي والدليل ويلازمه، فكذا الأظلال كأنها مهتدية وملازمة للأضواء فلهذا جعل الشمس دليلًا عليها.
وأما قوله: {ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} فأما أن يكون المراد منه انتهاء الأظلال يسيرًا يسيرًا إلى غاية نقصاناتها، فسمى إزالة الأظلال قبضًا لها أو يكون المراد من قبضها يسيرًا قبضها عند قيام الساعة، وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الأظلال وقوله: {يَسِيرًا} هو كقوله: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] فهذا هو التأويل الملخص.
المسألة الرابعة:
وجه الاستدلال به على وجود الصانع المحسن أن حصول الظل أمر نافع للأحياء والعقلاء، وأما حصول الضوء الخالص، أو الظلمة الخالصة، فهو ليس من باب المنافع، فحصول ذلك الظل، إما أن يكون من الواجبات أو من الجائزات، والأول باطل وإلا لما تطرق التغير إليه، لأن الواجب لا يتغير فوجب أن يكون من الجائزات، فلابد له في وجوده بعد العدم، وعدمه بعد الوجود، من صانع قادر مدبر محسن يقدره بالوجه النافع، وما ذاك إلا من يقدر على تحريك الأجرام العلوية وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن والترتيب الأكمل، وما هو إلا الله سبحانه وتعالى.
فإن قيل: الظل عبارة عن عدم الضوء عما شأنه أن يضيء، فكيف استدل بالأمر العدمي على ذاته، وكيف عده من النعم؟ قلنا: الظل ليس عدمًا محضًا، بل هو أضواء مخلوطة بظلم، والتحقيق أن الظل عبارة عن الضوء الثاني وهو أمر وجودي، وفي تحقيقه وبسطه كلام دقيق يرجع فيه إلى كتبنا العقلية. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}.
أي بسطه على الأرض وفيه وجهان:
أحدهما: أن الظل الليل لأنه ظل الأرض يقبل بغروب الشمس ويدبر بطلوعها.
الثاني: أنه ظل النهار بما حجب من شعاع الشمس.
وفي الفرق بين الظل والفيء وجهان:
أحدهما: أن الظل ما قبل طلوع الشمس والفيء ما بعد طلوعها.
الثاني: أن الظل ما قبل الزوال والفيء ما بعده.
{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} يعني الظل، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه قبض الظل بطلوع الشمس.
الثاني: بغروبها.
{قَبْضًا يَسِيرًا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: سريعًا، قاله ابن عباس.
الثاني: سهلًا، قاله أبو مالك.
الثالث: خفيًا، قاله مجاهد. اهـ.

.قال ابن عطية:

{ألم تر} معناه انتبه، والرؤية ها هنا رؤية القلب، وأدغم عيسى بن عمر {ربك كيف}، قال أبو حاتم والبيان أحسن، و{مد الظل} بإطلاق هو بين أول الإسفار إلى بزوغ الشمس ومن بعد مغيبها مدة يسيرة فإن في هذين الوقتين على الأرض كلها ظل ممدود على أنها نهار، وفي سائر أوفات النهار ظلال متقطعة والمد والقبض مطرد فيها وهو عندي المراد في الآية والله أعلم، وفي الظل الممدود ما ذكر الله في هواء الجنة لأنها لما كانت لا شمس فيها كان ظلها ممدودًا أبدًا.
وتظاهرت أقوال المفسرين على أن {مد الظل} هو من الفجر إلى طلوع الشمس وهذا معترض بأن ذلك في غير نهار بل في بقايا الليل لا يقال له ظل، وقوله تعالى: {ولو شاء لجعله ساكنًا} أي ثابتًا غير متحرك ولا منسوخ، لكنه جعل {الشمس} ونسخها إياه وطردها له من موضع إلى موضع {دليلًا} عليه مبينًا لوجوده ولوجه العبرة فيه، حكى الطبري أنه لولا الشمس لم يعلم أن الظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها وقوله: {قبضًا يسيرًا} يحتمل أن يريد لطيفًا أي بعد شيء لا في مرة واحدة ولا بعنف، قال مجاهد، ويحتمل أن يريد معجلًا وهذا قول ابن عباس ويحتمل أن يريد سهلًا قريب المتناول. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ألم تَرَ إِلى ربِّك}.
أي: إِلى فِعْل ربِّك.
وقال الزجاج: معناه ألم تعلم، فهو من رؤية القلب، ويجوز أن يكون من رؤية العين؛ فالمعنى: ألم تر إِلى الظِّلِّ كيف مَدَّه ربُّك؟ والظِّلُّ من وقت طلوع الفجر إِلى وقت طلوع الشمس {ولو شاء لجعله ساكنًا} أي: ثابتًا دائمًا لا يزول {ثم جعلنا الشمس عليه دليلًا} فالشمس دليل على الظل، فلولا الشمس ما عُرف أنه شيء، كما أنه لولا النُّور ما عُرفت الظُّلمة، فكل الأشياء تُعرف بأضدادها.
قوله تعالى: {ثم قَبَضْناه إِلينا} يعني: الظل {قَبْضًا يَسِيرًا} وفيه قولان:
أحدهما: سريعًا، قاله ابن عباس.
والثاني: خفيًّا، قاله مجاهد.
وفي وقت قبض الظل قولان:
أحدهما: عند طلوع الشمس يُقبض الظِّل وتُجمع أجزاؤه المنبسطة بتسليط الشمس عليه حتى تنسخَه شيئًا فشيئًا.
والثاني: عند غروب الشمس تُقبض أجزاء الظِّل بعد غروبها، ويخلّف كل جزء منه جزءًا من الظلام. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل}.
يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ويجوز أن تكون من العلم.
وقال الحسن وقتادة وغيرهما: مدّ الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وقيل: هو من غيوبة الشمس إلى طلوعها.
والأوّل أصح؛ والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة؛ فإن فيها يجد المريض راحة والمسافر وكل ذي علة: وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد، وتطيب نفوس الأحياء فيها.